تخيّل عالماً لا تُحدّد فيه حركة المرور ساعات عملك ولا يُملي عليك فيه موقع شركتك مكان إقامتك، عالماً تُصبح فيه مهاراتك جواز سفرك وقدراتك هي رأس مالك، هذا العالم ليس ضرباً من الخيال العلمي بل هو واقع يتشكّل أمام أعيننا، واقع العمل عن بعد فضاءً رقمياً يتسع باتساع الشبكة العنكبوتية ويتقلص بانقطاعها.
بين نقرة زر ورسالة إلكترونية يتشكل مستقبل العمل عن بعد، عالم افتراضي يجمع بين أفراد من أقاصي الأرض توحّدهم أهداف مشتركة وشغف بالإنجاز.
لم يعد العمل مجرد وظيفة نؤدّيها بل أصبح نمط حياة جديد يعيد تعريف مفهوم العمل وسُبُل الوصول إليه والخلاص من البطالة والاعتمادية.
لكن، هل نحن مستعدون لقراءة هذا الانتقال الجديد، ومواجهة تطوراته وتهيئة واقعنا لاستقباله؟
في هذا المقال من مسارات، نبحث عن مستقبل العمل عن بعد لاستكشاف آفاقه وتحدياته ورسم ملامح مستقبله.
الوضع الحالي للعمل عن بعد في المناطق المتضررة
انتشر مفهوم العمل عن بعد منذ عدة سنوات في سوريا بين الشباب الذي عانى من البطالة باحثاً عن فرص عمل أفضل تأخذه بعيداً عن واقعه الصعب، بعد الحرب التي شهدتها سوريا وما سببته من نزوح قسري وتدمير في البنية التحتية بدأت الخطوات تعود إلى الوراء مجدداً بعد أن ظن الشباب أنهم وجدوا النور الذي يقع نهاية النفق.
يؤثر نقص الوصول إلى الإنترنت والأجهزة التقنية سلباً على فرص التعليم والعمل للسكان في المخيمات، على سبيل المثال يواجه الطلاب صعوبات في متابعة دراستهم أو الوصول إلى الموارد التعليمية عبر الإنترنت، كما يجد الأفراد الذين يعتمدون على الإنترنت في عملهم صعوبة في الاستمرار لزيادة معدلات البطالة وتراجع فرص تحسين مستوى المعيشة.
تُظهر هذه التحديات الحاجة الماسة إلى تحسين البنية التحتية للاتصالات في المخيمات السورية، وتوفير خدمات إنترنت موثوقة وبأسعار معقولة، من شأن ذلك أن يُسهم في تحسين جودة الحياة للسكان ويُتيح لهم الوصول إلى التعليم وفرص العمل والتواصل مع العالم الخارجي.
وهكذا في سائر أرجاء سوريا فالوضع لا يقلّ سوءاً عن المخيمات حيث لا يوجد بنية تحتية صالحة ولا إنترنت سريع يمكنهم من العمل وهو محور العمل عن بعد.
فرص العمل عن بعد
اتخذ العمل عن بعد مكانةً يمكننا تشبيهها كنافذة مشرعة على عالم من الفرص اللامحدودة، فهو يتيح للأفراد والشركات على حد سواء مدّ جسور التعاون والعمل عبر الحدود دون أي قيود جغرافية، يخبرنا أنه ليس مجرد أسلوب للعمل بل هو قوة دافعة للنمو والتعافي الاقتصادي خاصة في الظروف التي تستدعي حلولاً مرنة واستراتيجيات مبتكرة.
يُطِلُّ العمل عن بعد كمنصة تُمَكِّنُ الشركات من الوصول إلى طاقات بشرية متنوعة من شتى أنحاء المعمورة، ما يُثري بيئات العمل بأفكار متجددة ورؤى تتخطى الحواجز الثقافية.
أما بالنسبة للأفراد، فإنه يفتح لهم آفاقاً واسعة للعمل في أسواق جديدة وفرصاً ثمينة لتطوير مهاراتهم من خلال خوض تحديات واكتساب أساليب عمل مختلفة في شركات بكل أنحاء العالم ليزيد خبرتهم وثقافتهم وانفتاحهم على العالم.
على الصعيد الاقتصادي، يُفضي العمل عن بعد إلى تحسين الإنتاجية وخفض التكاليف التشغيلية الأمر الذي يُمكن الشركات الصغيرة والناشئة من المنافسة في الأسواق العالمية بموارد محدودة، كما أنه يُوجد فرص عمل جديدة للأفراد في المناطق الأقل حظاً، وهو ما يُساهم في تقليل الفجوات التنموية إضافة إلى أن العمل عن بعد يُمكّن الأسر من تحسين جودة حياتها حيث يستطيع الأفراد تحقيق توازن أفضل بين حياتهم الشخصية والمهنية دون مشقة التنقل اليومي.
في خضم هذا التحول الرقمي المتسارع يغدو العمل عن بعد أداة استراتيجية ترفع كفاءة الاقتصاد، إذ يُتيح للشركات التكيف مع التغيرات الطارئة كالأزمات الصحية أو الاقتصادية دون الاضطرار إلى إيقاف عجلة الإنتاج.
العمل عن بعد بمثابة جسر يربط بين الطموح والإمكانات ويدفع مسيرة التقدم نحو مستقبل تتلاشى فيه الحدود ويزدهر فيه الاقتصاد بفضل التفاعل الخلّاق بين العقول المبدعة أينما وُجِدت.
تتدخل مبادرة مسارات بنشاطٍ وحفاوة في تهيئة الواقع لإدخال الشباب سوق العمل عن بعد فهي من خلال مبادرتها تطرح برنامج التدريب المهني لتأهيل الشباب في سوق العمل الحر بالمهارات الأكثر انتشاراً وتفضيلاً.
تحديات العمل عن بعد في المناطق المتضررة
تصطدم المناطق المتضررة باعتراضات جوهرية تعيق استمرار العمل عن بعد وهي تُمثل أساس العمل لأنه لا يمكن أن ينطلق بدونها، إذ تتضافر العقبات لتشكل سداً منيعاً أمام الأفراد والمؤسسات.
ففي طليعة هذه التحديات يبرز ضعف البنية التحتية كعائق رئيس حيث تفتقر المناطق المتضررة من الحروب إلى أبسط الخدمات الأساسية كالكهرباء والاتصالات الذي يحول دون استمرار العمل عن بعد أو في بعض الأحيان إلى إيقاف العمل تماماً وتخلي العملاء عن الأفراد أو الشركات التي تتعاون معهم ما يزيد من المعاناة أضعافاً.
أمراً آخر وهو صعوبة الوصول إلى شبكة الإنترنت في هذه المناطق، الذي يلقي بظلاله كعائق على سير الاجتماعات الافتراضية والتواصل وإنجاز المهام المطلوبة ويُخفض الإنتاجية بشكلٍ كبير.
أما الاستقرار الاقتصادي والسياسي يأتي كالحجرة الكبيرة التي تسقط بثقلها في منتصف طريق سير العمل، فالأوضاع المضطربة تؤدي إلى تفاقم التوتر وفقدان التركيز والذي بطبيعة الحال يؤثر على الصحة النفسية لدى العاملين ليقلل من قدرة الأفراد على الالتزام بمسؤولياتهم وفقدان تركيزهم.
كما تُضعف التحديات الاقتصادية القدرة على توفير الأدوات التقنية الضرورية كالحواسيب والهواتف الذكية ولا يمكن استبدالها بأي شيء كونها القاعدة التي يقرر منها الفرد خوض سوق العمل عن بعد، فلا يمكن العمل بدون جهاز لابتوب أو في أسوأ الأحوال وجود الهاتف النقال.
ويضاف إلى ذلك الضغط النفسي الناجم عن الأزمات المحلية الذي يعقد التكيف مع متطلبات العمل عن بعد، الأمر الذي يستدعي دعماً تقنياً ونفسياً لتعزيز نجاح هذا النمط من العمل في مثل هذه الظروف الصعبة.
استراتيجيات فعّالة للتغلب على التحديات واستغلال الفرص في العمل عن بعد
للتغلب على تحديات العمل عن بُعد لا سيما في المناطق المتضررة، يُمكن تبني استراتيجيات مبتكرة ترمي إلى الارتقاء بالكفاءة والفاعلية لدى الأفراد والشركات على حد سواء. فيما يلي جملة من النصائح والاستراتيجيات التي يُمكن أن تُسهم في تحسين الأداء واستثمار الفرص المتاحة:
1- توطيد البنية التحتية التقنية: يتعين على الحكومات تقديم الدعم اللازم لتحسين البنية التحتية وذلك من خلال توفير مصادر طاقة بديلة كالألواح الشمسية وتطوير شبكات الاتصال في المناطق النائية، وبدورهم يُمكن للأفراد الاستثمار في حلول تقنية كأجهزة تقوية إشارة الإنترنت أو الاعتماد على أجهزة متنقلة تضمن استقرار الاتصال عند انقطاع الشبكة.
2- التخطيط والتنظيم الفعّال: يُساعد اعتماد أدوات إدارة المشاريع مثل Trello وAsana على تنظيم العمل وتوزيع المهام بكفاءة أكبر، كما أن تخصيص جداول زمنية واضحة يساعد على تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية مع ضمان تحديد أولويات المهام اليومية.
3- بناء بيئة عمل مرنة وداعمة: من الضروري تشجيع الشركات على توفير برامج تدريبية لدعم موظفيها في التعامل مع الأدوات الرقمية والعمل بفاعلية في بيئات العمل عن بُعد.
4- الاستثمار في التدريب والتطوير: ينبغي على الأفراد اغتنام الفرص لتطوير مهاراتهم عبر الالتحاق بدورات تدريبية عبر الإنترنت تُغطي مواضيع تقنية وإدارية، وهو ما يُعدهم على نحو أفضل لسوق العمل العالمي، وبالمثل يُمكن للشركات تقديم دورات تعليمية داخلية تُساعد على رفع كفاءة فريق العمل.
5- الاستفادة من الفرص العابرة للحدود: يُمكن للأفراد البحث عن فرص عمل عن بُعد عبر منصات مثل Upwork وLinkedIn، ما يُتيح لهم العمل مع شركات دولية بعيداً عن قيود الأسواق المحلية، وبالنسبة للشركات يُساعد التعاون مع المواهب العالمية على تعزيز التنافسية ودعم تنوع الأفكار والإبداع في المشاريع.
6- المرونة في مواجهة التحديات الاقتصادية: يُمكن تقديم حلول مالية مبتكرة كخطط تقسيط للأدوات التقنية أو توفير اشتراكات منخفضة التكلفة للإنترنت لتخفيف الأعباء عن الأفراد، وكذلك يُمكن تنويع مصادر الدخل عبر استثمار مهارات العمل الحر في مشاريع جانبية ما يُساهم في تقليل الضغط المالي.
7- تعزيز التعاون والتواصل الافتراضي: يُمكن اعتماد تقنيات مثل Zoom وMicrosoft Teams لتيسير الاجتماعات الافتراضية وتحسين جودة التفاعل بين فرق العمل، كما يُستحسن تنظيم اجتماعات دورية لضمان التوافق بين فرق العمل وتبادل الأفكار بانتظام.
8- أهمية الدعم النفسي لتحقيق الاستدامة: قد يكون العمل عن بُعد مُرهقاً من الناحية النفسية خاصة في ظل العزلة الاجتماعية التي يُمكن أن تنشأ عنه وأيضاً الظروف في المناطق المتضررة من الحروب، لذلك من الأهمية تقديم الدعم النفسي لمواجهة هذه التحديات يُمكن للشركات توفير استشارات نفسية عبر الإنترنت أو جلسات جماعية لتعزيز التفاعل الإيجابي بين الموظفين.
كما يُنصح الأفراد بممارسة أنشطة تُعزز الصحة النفسية كالتأمل والرياضة والقراءة، أو حتى تخصيص وقت يومي للتواصل مع الأصدقاء والعائلة ما يُساعدهم على الشعور بالتوازن النفسي، فالدعم النفسي لا يُحسن الإنتاجية فحسب بل يُوجد بيئة عمل مُستدامة ومليئة بالحيوية.
9- تعزيز فكرة فصل العمل عن الحياة الشخصية: في العمل عن بُعد قد تتداخل الحدود بين الحياة الشخصية والمهنية ما يُؤدي إلى الإرهاق أو ضعف الأداء، لذلك لتحقيق التوازن من الضروري وضع حدود واضحة للعمل كـتحديد ساعات عمل ثابتة والالتزام بها، وتجهيز مساحة عمل منفصلة داخل المنزل تُستخدم فقط للأغراض المهنية، كذلك يُنصح بتجنب الإفراط في العمل أو البقاء مُتصلاً على مدار الساعة فالراحة ضرورية للحفاظ على التركيز والإبداع.
خلق هذا الفصل لا يُحسن الكفاءة فحسب، بل يُساهم في حياة أكثر سعادة واستقراراً ويضمن استمرار القدرة على العطاء في بيئة العمل.
ما هي التوقعات المستقبلية للعمل عن بعد؟
تطورات العمل عبر الإنترنت لا تتوقف مع زيادة التحولات الرقمية في أغلب المجالات، وهناك توقعات كبيرة نحو استمرار نمو هذا النمط من العمل بشكل لافت، فما هي أبرز التطورات التي ستطرأ على العمل عن بُعد؟
- سوف يتوسع نطاق الوظائف المتاحة عن بعد، حيث ستتحول 218 نوعاً من الوظائف من أصل 5400 إلى وظائف رقمية عالمية يمكن العمل عليها عن بُعد من أي مكان.
- تدّخل الذكاء الاصطناعي في غالبية مجالات العمل سيزيد من فرصة العاملين في سوق العمل عن بعد.
- سيتيح العمل عن بعد للشركات استقطاب المواهب من مختلف أنحاء العالم دون التقيد بالموقع الجغرافي.
- من المرجح أن تعتمد الشركات نماذج عمل هجينة تجمع بين العمل عن بعد والعمل من المكاتب، للحفاظ على التفاعل الشخصي عند الحاجة بين الموظفين.
مسارات للتنمية والتعليم المستدام في سوريا
في خضم الجهود الرامية إلى دعم التنمية المستدامة وخاصة التعليم عن بعد في سوريا، تبرز مبادرة مسارات كمنصة واعدة تُعنى ببناء القدرات وتنمية المهارات وإيصال المعارف والعلوم، مُركّزةً بشكل خاص على تأهيل الشباب لسوق العمل المتغير.
تُقدّم المبادرة مجموعة متنوعة من البرامج التدريبية من بينها برنامج التدريب المهني الذي يكتسب أهمية متزايدة في ظلّ التحولات الاقتصادية والرقمية التي يشهدها العالم، يتميز هذا البرنامج بتركيزه على تزويد المشاركين بالمهارات اللازمة للعمل عن بُعد، مُستجيباً بذلك لمتطلبات سوق العمل العالمي الذي يشهد طلباً متزايداً على هذا النمط من العمل. تشمل هذه المهارات مجالات البرمجة والتصميم وكتابة المحتوى وغيرها من المجالات المطلوبة في سوق العمل الحر.
من خلال هذا البرنامج تُساهم مسارات في تمكين الشباب السوري وتزويدهم بالأدوات التي تساعدهم على بناء مستقبل واعد سواء داخل سوريا أو خارجها وذلك من خلال الاستفادة من الفرص التي يُتيحها العمل عن بُعد.