يغفل الكثيرون عن الأسرار العميقة المخبأة في أنفسهم وكيف تؤثر السعادة على أجسادهم بيولوجيًا. السعادة، وهي اللغز الذي استحوذ على اهتمام الفلاسفة والعلماء لقرون، وتكشف الأبحاث الحديثة أهمية هرمونات معينة في تعزيز مشاعر البهجة، وفي عصرنا الحالي توضح الدراسات دور هذه الهرمونات في إثراء تجربتنا الإنسانية بالسعادة.
في هذا المقال سنناقش مفتاح السعادة الخفي في حياة الإنسان وما هي الهرومنات المسؤولة عن السعادة وكيفية تحفيزها.
هرمونات السعادة: الدوبامين و الإندورفين
هرمونات السعادة، وعلى رأسها الدوبامين و الإندورفين، تلعب دورا حاسما في تحفيز الشعور بالرضا والمتعة داخل الجسم البشري.
الدوبامين: المعروف أيضا بـ”هرمون المكافأة”، يساهم بشكل أساسي في تنظيم الشعور بالمتعة والسعادة. يتم إطلاق هذا الهرمون كاستجابة طبيعية للتجارب التي تعتبر مجزية أو مرضية بالنسبة للفرد، مما يشجع على استمرار السلوكيات التي تؤدي إلى مثل هذه التجارب الإيجابية.
الإندورفين: يمتلك هذا الهرمون القدرة المذهلة على التخفيف من الألم وإحداث شعور بالرفاهية، و يُفرز بشكل طبيعي في أوقات الضغط البدني أو الإجهاد، مثل بعد النشاط البدني الشديد أو حتى خلال الضحك، وبهذه الطريقة، يساعد الإندورفين الجسم على التغلب على الإجهاد والألم، ويعزز في الوقت نفسه شعورا عاما بالسعادة والرضا.
وهذه الهرمونات تعمل كجزء من نظام معقد داخل الجسم يعزز السلوكيات والأنشطة التي تساهم في الرفاه العام والسعادة، مما يجعلها مكونات حيوية في تحقيق توازن عاطفي وجسدي صحي
التبرع والسعادة: دورة العطاء الإيجابية
من الرائع أن ندرك كيف أن مساعدة الآخرين والعطاء يمكنهما حقا أن تجعل قلوبنا تنبض بالفرح، عندما نتبرع أو نساعد شخصًا، لا نقوم فقط بعمل خيري، بل في الواقع نغمر أنفسنا بالسعادة.
تخيل أن داخلنا يوجد زر للسعادة، وكل مرة نساعد فيها الآخرين، نضغط على هذا الزر. السر يكمن في أن دماغنا يبدأ بإفراز مواد تشعرنا بالسعادة، مثل الدوبامين و الإندورفين. هذا يعني أن بإمكاننا نشر الخير والشعور بالسعادة في آن واحد.
دراسات عديدة أكدت على الفوائد المتعددة للمشاركة في أعمال الخير والتبرع، مشيرة إلى أن هذه الأفعال لا تساعد الآخرين فحسب، بل تسهم أيضًا في تحسين نوعية حياة الفاعلين أنفسهم.
الأثر النفسي والبدني للعطاء
على الصعيد النفسي، أظهرت دراسة نشرت في مجلة “Psychological Science” أن الأفراد الذين يمارسون الأعمال الخيرية يتمتعون بمستويات أقل من الضغط والقلق. البروفيسور ستيفين بوست، مؤلف كتاب “The Hidden Gifts of Helping”، يوضح كيف أن العطاء يمكن أن يؤدي إلى شعور بالسعادة والرضا، مؤكدًا على القول المأثور “أكثر سعادة هو الذي يعطي من الذي يتلقى”.
من الناحية البدنية، وجدت دراسات أن العطاء يمكن أن يكون له تأثيرات ملموسة مثل خفض ضغط الدم وتحسين صحة القلب. الدكتور هانز سيلي، الذي يعتبر أحد مؤسسي نظرية الإجهاد، أشار في أعماله إلى أن العطاء والتطوع يمكن أن يقلل من التوتر ويعزز الرفاهية الجسدية.
بالإضافة إلى ذلك، يشير البحث إلى أن الأفراد الذين يشاركون في العطاء بانتظام قد يتمتعون بعمر أطول. في دراسة نُشرت في “American Journal of Public Health”، وجد الباحثون أن الأشخاص الذين قدموا الدعم الاجتماعي للآخرين كان لديهم معدل وفيات أقل خلال فترة الدراسة.
من خلال هذه الأدلة، يصبح واضحًا أن العطاء يعود بالنفع ليس فقط على المستفيدين ولكن أيضًا على الفاعلين، مؤكدًا على الفكرة القائلة بأن العطاء هو فعل إنساني يرتقي بكل من يشارك فيه.
السعادة المشتركة: تأثير العطاء على المجتمع
عندما نتشارك في العطاء، نخلق ما يمكن تسميته بـ”السعادة المشتركة”، حيث تتجاوز فوائد أفعالنا الخيرية حدود تحسين حياتنا الشخصية وتمتد لتشمل المجتمع ككل. العطاء يولّد سلسلة من التأثيرات الإيجابية التي تتمدد كموجات في بحيرة، محفزةً المزيد من الأشخاص على القيام بأفعال مماثلة من الكرم والمساعدة. على سبيل المثال، البروفيسور روبرت بوتنام، في كتابه “Bowling Alone”، يناقش كيف أن العطاء والمشاركة المجتمعية تعزز الثقة الاجتماعية والترابط بين الأفراد، مما يقوي النسيج الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الأبحاث أن العطاء يمكن أن يحفز على التغيير الإيجابي ويعزز قيم المساواة والدعم المتبادل. عندما يشهد أفراد المجتمع على أعمال الخير، يصبحون أكثر ميلًا لتقديم المساعدة والمشاركة بأنفسهم، مما يخلق دوامة إيجابية من العطاء والامتنان
العطاء، إذًا، يمكن أن يكون قوة محركة للتحسين المجتمعي، محفزًا للأفراد على النظر إلى ما وراء احتياجاتهم الشخصية والعمل معًا نحو هدف مشترك، من خلال تعزيز السعادة المشتركة، نساهم في خلق مجتمع يزدهر بالأمل، الدعم، والتضامن.
في ضوء ما تقدم، يظهر جليًا كيف أن العطاء يمثل قوة محورية ليس فقط في تحسين حياتنا الشخصية، ولكن أيضًا في إثراء مجتمعاتنا. والآن، نقف على أعتاب فرصة فريدة لتحويل هذه الرؤى إلى واقع ملموس من كفالة تعليم الأطفال الأيتام عبر دعم مبادرة “مسارات”، التي تهدف لنشر المعرفة عن بعد بين السوريين وخاصة الفئات الأكثر تضررا بالمجتمع
لكل منا دور يمكن أن يلعبه، مهما كان صغيرا، فكل مساهمة تعد بمثابة شعلة أمل في حياة طفل يتوق إلى التعلم وبناء مستقبل أفضل.