العقلية النقدية هي تلك التي تمتلك الفضول وتطرح الأسئلة، تبتكر الحلول وتقدم الأمثلة، تبحث عن الدليل والمنطق وتمتلك الشجاعة لتعترف بالحق حين تشير إليه البوصلة.
لكن البعض يخلط بين النقد والنقض، فبحجة النقد يمارس كثيرون سلوك النقض لكل فكرة جديدة ويجعلون من ألسنتهم معاول هدم للطموحات والآمال، فلا هم يوجدون الحلول ولا هم يشجعون من يحاول إيجادها
العقلية النقدية بحق هي التي يحتاجها صنّاع القرار وروّاد التغيير، وهي التي يحتاجها أي إنسان في حياته اليومية ليستطيع التفريق بين الحق والباطل، بين الحقيقة والسراب، في هذه الأوقات الحرجة من عمر مجتمعاتنا حيث تحيط بنا التحديات من كل صوب كيف لنا أن نوجد حلولاً لمشكلاتنا دون تلك العقلية التي تلاحظ وتربط وتستنتج وتبتكر ثم تجرب وتستدل وتقيّم، بينما يظن البعض أن النقد هو الهدم فإن الحقيقة هي أن النقدَ هو أولى خطوات البناء.
كيف نكوّن العقلية النقدية
لكن كيف نكوّن العقلية النقدية في مؤسساتنا التربوية؟ عن طريق الكتب الدراسية؟ أم من خلال أسلوب المعلم؟ أم هو النظام المتبع مع الطلاب في تلك المؤسسات؟ بعد تجارب متنوعة فهمت أن العقلية النقدية لا تتم إلا من خلال هذه القنوات مجتمعة، وبها أيضاً تتم إعاقة هذا التكوين في أحيان كثيرة!
حتى حين تحتوي الكتب المدرسية على فقرة بعنوان “سؤال التفكير الناقد” فإن هذه الجزئية لن تأخذ حقها من الطرح إن كان تركيز المعلّم منصبّاً على الأسئلة التي تتكرر في الاختبار بإجابات ثابتة لم تتغير منذ سنين، إن كان في بداية كل حصة أو خلالها يذكّر الطلاب بالاختبار ويمضي في درسه وهو يظلل فقرات ما سيدخل في الاختبار ويملي على الطالب إجابةً ليكتبها بالحرف في الاختبار، وكأن الاختبار هو منتهى هذا التعليم وهدفه الأسمى!
أسئلة التفكير الناقد
بالمقابل حتى وإن لم تحوِ الكتب الدراسية على أسئلة التفكير الناقد بشكل مباشر فإن المعلّم الذي تكون حصته تفاعليّة لا تلقينية، يُشرَح فيها المطلوب عن طريق طرح الأسئلة الذكية التي تدفع الطالب لاسترجاع معلوماته والبناء عليها وعن طريق الأمثلة الواقعية التي تجعل الطالب يقارن ويستنتج ويستدل ويفسّر بمفرداته دون تخوّف، هذا بالتحديد هو المعلّم الذي يكوّن عند طلابه مهارات التفكير الناقد، بينما يؤسس المعلم في السيناريو الأول عقليّة متحجرة لا تقبل الجديد ولا تملك أدوات تقليب الفكرة وفهمها فإن المعلم في السيناريو الثاني يكوّن عقلية حلّال المشاكل القادر على التكيف مع التحديات.
ماذا لو تعلّم الطالب في حصصه مهارات التفكير الناقد ثم تعرّض في مدرسته لمظلمة فتقدّم بشكوى لكن شكواه قوبلت بالبرود والتحقير، ماذا لو كانت قوانين المدرسة صارمة دون حاجة تربوية حقيقية مما يشعر الطالب أن نظام المدرسة جامد رجعي لا منطق فيه، ماذا لو لم يكن في المدرسة مساحة للتعبير عن النفس أو طرح المقترحات الجديدة أو عمل المشروعات الإبداعية؟ إن البيئة التي لا يشعر الطالب فيها بالحرية والاستقلالية والانتماء لا تعيق التفكير النقدي وحسب، بل تقتل الدافع الداخلي للتعلم.
ماذا لو اجتمع أسلوب المعلّم التفاعلي مع مساحة الحرية والأمان التي توفرها المؤسسة التربوية مع عنصر الإبداع في المحتوى المقدّم للطالب؟ هذا ما نقدمه في مسارات وخصوصاً من خلال مسار الأنشطة الطلابية، فإن كنت تبحث عن مساحة للتعبير عن نفسك ففي ورشة “موهبتي” تجد ذلك، وإن كنت تبحث عن النقد الأدبي ففي ورشة “مسارات تقرأ” تجد ذلك، وإن كنت تبحث عن النقد الفني لأعمال إعلامية ففي ورشة” النقد السينمائي” تجد ذلك.
النقد الذاتي
لم نكتف في مسارات بنقد المدخلات الخارجية، بل درّبنا الطلاب على النقد الذاتي! ففي ورشة “مع نفسي” يتدرّب الطلاب على فهم ذواتهم وتطبيق مبدأ التخلية ثم التحلية، وفي ورشة “اتيكيت الأون لاين” قام الطلاب بنقد سلوكياتهم عبر تطبيق التيمز والمساهمة بعد ذلك بوضع قوانين عامة لتواصلهم من خلاله.
أما في النشاطات التي يطلب من طلابنا تحضيرها مثل “نشاط عيد الفطر” جمع الطلاب أفكارهم ومقترحاتهم، ثم قاموا بأنفسهم بتصنيفها، ثم اختيار الأنسب منها للتطبيق بعد نقاشات جماعية مطوّلة!
وفي ورشة “فسيلة” اطّلع الطلاب على تجارب مميزة من أنحاء العالم لأناس ابتكروا حلولاً لمشكلات مجتمعاتهم، كان طلابنا يراقبون يحللون ثم ينقدون الحلول ويقيّمونها ويقترحون ما يمكن تحسينه، حتى مع كتاب الله حرصنا أن ندرّب طلابنا على تفعيل مهارات التفكير الناقد في ورشة “البحث عن الكنز” ليستطيعوا باستخدامها الوصول إلى تدبر وفهم أعمق، فحتى مع المقدّس إعمال التفكير هو المطلب.
تقييم الطالب لمؤسسته التربوية
اعتدنا في المؤسسات التربوية أن نقيّم الطالب وهذا أمر لابد منه لكن ماذا عن تقييم الطالب لمؤسسته التربوية؟ هل يحصل الطالب على هذه الفرصة؟ هل يساهم هو في نقد مؤسسته لتحسينها؟ هذا ما نحرص أن نطبّقه مع طلابنا في مسارات.
إن العقلية النقدية ليست جملة تكتب في كتاب ولا محاضرة تعرض للجمهور، بل هي مجموع السلوكيات القائمة في كل عناصر النظام التعليمي حينها فقط ستتجه بوصلة أبناء هذا الجيل نحو النقد لا نحو النقض.
شيماء مازن – مسؤولة الشؤون المعرفية في مبادرة مسارات