مبادرة مسارات

الرياضيات الأولى
22 فبراير، 2024
محتوى المقال

تنأى اليوم الرياضيات بنفسها بعيداً عن باقي العلوم من حيث شَرطيّة التجربة والملاحظة والمشاهدة واقتصار أدواتها على القلم والورقة، أو الطباشير والسبّورة، ولم تعُد بحاجة إلى معملٍ أو مخبرٍ حتّى تنمو وتتطوّر، فالرياضيات تنبع من رأس وفكر الرياضياتي فقط وهذا ما يعززه المذهب الأفلاطوني الذي يعتبر الأعداد والأشكال هي أخيلة شائهة للمثال الكامل الموجود في عالم المثال الأعلى.

 

القياس والترتيب

إنّ الرياضيات لا تنظر إلى ذوات الأشياء ومكوّناتها بقدر ما تنظر إلى ما يُقاس ويُعدّ منها، بالتالي أوّل أبجدية للرياضيات هي القياس والترتيب أو كما عبّر عنها ابن سينا “الكمّ المتصل والكمّ المنفصل” والتي تُعدّ مرادفًا للثنائية الرياضية الأولى وهي الهندسة والحساب التي تعبّر عن مفهومي المكان والزمان على الترتيب.

 

علاقة الحواس بعلم الهندسة

أجرى الطبيب الألماني فيبر تجربة لقياس قدرة الإنسان على الإحساس باستخدام رأسَي إبرَتَي فرجار متباعدتين قليلًا يضغط بهما على الجلد من ناحية الكتف، فلا يشعر الشخص بوخزتين بل بوخزة واحدة، ثمّ يكرّر التجربة على مناطق مختلفة من الجلد وبمسافات مختلفة بين الإبرتين، فلاحظ اختلاف الشعور، فتارةً يشعر الشخص بوخزة وتارةً بوخزتين، ومنها اكتشف أنّ عدد النهايات العصبية غير متجانس في مختلف مناطق الجلد، لكن الاكتشاف الرياضي أو الفلسفي كان، اختلاف القياس الكمّي من فرد لآخر أو من مكان لآخر أو من ظرف لآخر، بالتالي فإنّ المكان ليس مطلقًا وغير مطابق للمواصفات القياسية التي تجعل من الهندسة علمًا أصيلًا.

 

 

أثر علم الاجتماع على الهندسة

بعد الأزمة التي تسبّبت بها الفيزيولوجيا لمفهوم المكان وعلم الهندسة، تدخّل علم الاجتماع، وقال منظّروه يجب دراسة الحالة من خلال العقل الجمعي وليس من خلال الحالات الفردية، ولو نظرنا للمكان من وجهة نظر الإنسان الأوّل البدائي، سنجد أنّ المكان بالنسبة له هو ما يعبّر عن حاجات القبيلة اليومية فقط كالصيد والعبادة والالتقاط والنوم والحماية، وهذا المكان يجب أن يتّصف بالتجانس والتماثل والاتّصال، وهي المواصفات التي كانت نقطة البدء لظهور علم الهندسة عند الإغريق.

 

ظهور علم الحساب

لم تكن مسيرة الحساب مختلفة عن مسيرة الهندسة، حيث كان مفهوم العدد في البداية مبهمًا ومختلطًا بالمعدود لدرجة أنّ الإنسان البدائي لم يكن بحاجة للإيزومرفية (التقابل – التماثل) التي تشكّل أساس العدّ اليوم، فكان يعطي أعدادًا مختلفة لنفس المعدود، أو يعطي عددًا واحدًا لعدّة كميات مختلفة، وما زالت اللغات تحتفظ حتى اليوم بآثار تلك المرحلة من طفولة الحضارة الإنسانية، ففي العربية مثلًا نجد كلمة “بضع” للدلالة على الكميات من ثلاثة إلى تسعة.

 

 

في ظلّ هذا الوضع لم يكن لعلم الحساب أن يقوم، واحتاج الأمر لتدخّل الإغريق مرة أخرى، عبر الفلاسفة الأوائل الذين استفادوا من جوّ الحرية الفكرية والثقافة الجدلية التي أتاحت السؤال بـ “لماذا” بدل الاقتصار على السؤال بـ “كيف” فقط.

 

 

كانت الريادة مع الحكيم طاليس الذي مهّد الطريق لفيثاغور صاحب أوّل مدرسة تجريدية والتي اعتبرت الأعداد هي أساس الكون بدلًا من الماء أو الهواء أو التراب بحسب فلاسفة الطبيعة، ثمّ جاء إقليدس الذي بنى أعظم بناء فكري عرفته البشرية وهو الهندسة التي سُمّيت فيما بعد بالهندسة الإقليدية، والتي بقيت متربّعة على عرش الفكر الإنساني لأكثر من ألفي عام، وبالرغم من مزاحمة الهندسات اللاإقليدية لها في القرون الأخيرة إلا أنّها ما زالت شاهدةً على عبقرية الإنسان ونبوغه الفكري.

 

الكاتب: د. أحمد خطيب – مستشار في مبادرة مسارات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شارك المحتوى عبر:

محتوى المقال