مبادرة مسارات

النحاة البصريون: رحلة أبي الأسود الدؤلي وتلاميذه في تأسيس علم النحو
25 مارس، 2024
محتوى المقال

كما ذكرنا سابقاً أجمع جمهور المؤرّخين والنّحاة على أنّ أبا الأسود الدؤلي وتلميذيه نصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز هم الذين وضعوا اللبنات الأولى في علم النّحو، وذلك من خلال بعض الأبواب، وتنقيط القرآن الكريم وضبط كلماته، فكان عملهم عظيماً وفضلهم كبيراً.

 

عبدالله بن أبي إسحاق من أوائل النحاة البصريون

يُعدّ عبدالله بن أبي إسحاق الحضرميّ المتوفّى (117) هجريّة أوّل النحاة البصريون بالمعنى الدّقيق لهذه الكلمة، حيثُ يقول عنه ابن سلّام (كان أوّل من بعج (فتق) النّحو و مدّ القياسَ وشرح العلل) وبذلك يجعله ابن سلّام الواضع الأوّل لعلم النّحو.

 

إسهامات ابن أبي إسحاق في تطوير علم النحو

يعد ابن أبي إسحاق أوّل من اشتقّ قواعده، وأوّل من أعمل فيها القياس، وقد أخذ عن نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر. ويقول عنه أبو الطّيّب اللغويّ (فرّع عبدالله بن أبي إسحاق النّحْوَ، وأساس وتكلّمَ في الهمز، حتّى عُملَ فيه كتابٌ مّما أملاه)، ويُروى أن يونس بن حبيب سأله عن كلمة ( السّويق)، وهو النّاعم من دقيق الحنطة، هل ينطقها أحدٌ من العرب (الصّويق) بالصّاد؟ فأجابه: نعم، قبيلة عمرو بن تميم تقولها، ثمّ قال له: وما تريدُ إلى هذا؟ عليك بباب من النّحْو يُطّردُ ويُقاس.

 

الفرزدق وابن أبي إسحاق: مواجهة بين الشعر والنحو

ولابن أبي إسحاق مواقف كثير مع الفرزدق يُخطئه في أكثر من موطن فينقده، الأمر الذي دعا الفرزدق إلى هجائه بقصيدة يقول في أحد أبياتها:

 

فلو كانَ عبدُ اللهِ مولىً هجوتُهُ       ولكنّ عبدَ اللهِ مولىٍ مواليا

 

وما كاد ابن أبي إسحاق يسمعه حتّى قال له: أخطأتَ أخطأت – فقد نسي هجاءه، وانتبه إلى خطأ الفرزدق- إنّما هو مولىً موالٍ، لأنّ كلمة (موالٍ) اسم منقوص تُحذف ياؤه في حالتي الرفع والجر عندما يأتي نكرة، ولكنّ الفرزدق لم يحذف الياء، وكان ردّ الفرزدق عليه :علينا القولُ وعليكم التّأويل. نستنتج من تلك المشادّات والمناقشات بين النحاة البصريون والشّعراء أنّه لا يجوز للشّاعر مهما كان فصيحاً أن يخرج عن القواعد المطّردة، ويبدو أنّه فتح لنحاة البصرة من بعده بمراجعاته للفرزدق أن يُخطّئوا بعض الشّعراء الفصحاء لا من الإسلاميّين فحسب بل أيضاً من الجاهليّين على نحو  ما سنرى عند تلميذه عيسى بن عمر.

 

ولم يترك لنا أيّ كتاب في النّحو، وكان يملي على تلاميذه ويحاضر فيهم، وكلّ ما أُثر عنه كتاب في الهمز، يبدو أنّه عالج فيه مسألة رسم الهمزة في حال قطعها ووصلها، وحين تُسهّل، وحين تدخل على همزة أخرى، وحين تتّصل بحروف العلّة، ممّا له علاقة في دقّة الكتابة بالذّكر الحكيم، ولا سيّما أنّه كان من القرّاء النّابهين.

 

عيسى بن عمر الثقفي: استكمال الأساس وتوسيع القواعد

يأتي بعد ابن أبي إسحاق الحضرميّ عيسى بن عمر الثّقفيّ، وهو أبو عمر، مولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف فنُسب إليها، وهو أهم تلاميذ ابن أبي إسحاق، وقد تبعه على منهجه في اتّباع القياس، ومن أقيسه ما حكاه سيبويه عنه من أنّه كان يقيس النّصب في كلمة (يا مطراً) في قول الأحوص: 

 

سلامُ اللهِ يا مطراً عليها       وليس عليكَ يا مطرُ السّلامُ

 

وذلك على نصب (يا مطراً) فعامل كلمة (مطر) معاملة النّكرة غير المقصودة، وكان كشيخه ابن أبى إسحاق يطعن حتّى في بعض شعراء الشّعر الجاهليّ، ومن ذلك تخطئته للنّابغة في قوله:

 

فبتُّ كأنّي ساورتني ضئيــلةٌ        من الرّقشِ في أنيابها السُّمُّ ناقــعُ

 

إذْ جعل القافية مرفوعةً، وحقّها أن تُنصبُ على الحال؛ لأنّ المبتدأ قبلها، وقد تقدّمه الخبر وهو الجار والمجرور، وكأنّ النّابغة ألغاها لتقدّمهما، وجعل ناقعاً الخبر.

 

التأثير المستمر: تلاميذ عيسى بن عمر وترسيخ القواعد

ويُروى أنّه كان يخالف جمهور القرّاء في قراءة الآية الكريمة :(هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم) إذ كان يقرؤها بنصب (أطهر) على الحال ،وجعل (هنّ) ضمير فصل. ويبدو أنّه كان يتوسّع  في تقدير العوامل المحذوفة، ومن ذلك ما رواه عن سيبويه أنّه كان يلفظ قولهم: ( ادخلوا الأوّلُ فالأوّلُ)، برفع الكلمتين الأخيرتين على تقدير أنّهما مرفوعتان بفعل مضارع محذوف تقديره: «ليدخل». وكأنّه لقّن تلميذة الخليل والنحاة البصريون من بعده فكرة تقدير العوامل المحذوفة التي عمّموها في كثير من العبارات. ووضع أصلاً مهمّاً يدلّ على دقّة حسه اللغويّ وهو اختيار النّصب في الألفاظ التي جاءت عن العرب في بعض العبارات مرفوعة ومنصوبة، وكأنّه أحسّ في وضوح أنّ العرب تنزع إلى النّصب أكثر ممّا تنزع إلى الرّفع لخفّته، فجعل النصب فوق الرفع وعدّه الأساس. 

 

إسهامات عيسى بن عمر الثّقفيّ في تطوير علم النحو

ويُعدّ عيسى بن عمر الثّقفيّ من القرّاء البصريين، وهو أحد أهم أئمّة العربيّة والنّحو في عصره، ولعلّه أوّل من ألّف فيهما كتابين مهمّين، وقد اشتهر اسم كتابيه دون أنْ يصل إلينا منهما أيّ خبر أو أثر، ويُروى بأنّ تلميذه الخليل قرأهما ووعاهما ، وأعجب بهما، وقد مدحهما بقوله:

 

ذهـــبَ النّحـــوُ جميعاً كـلّه          غيرَ ما أحدث عيسى بنُ عمر

ذاكَ (إكمالٌ ) وهذا (جامعٌ)          فهمــــا  للنّاسِ شمسٌ وقمــر

 

ويقول السّيرافي عن هذين الكتابين (ثمّ فقد النّاسُ هذين الكتابين منذ مدة طّويلة، ولم يقعا إلى أحد علمناه …)

قد تتلمذ على عيسى بن عمر هذا: الخليل وسيبويه، وأبو زيد الأنصاريّ أئمة البصريين الأعلام، وأبو جعفر الرّؤاسي الذي صار فيما بعد رأس الكوفيّين، وخلفه في ذلك تلميذاه الكسائيّ والفرّاء.

 

ونكتشف مما تقدم أنّ عيسى بن عمر هو الذي مكّن للنّحو، وأسّس للقواعد التي اعتمدها تلميذه الخليل ومن تلاه من البصريّين سواء في محاضراته وإملاءاته أو في مصنّفاته، وقد تُوفّي سنة 149 هجريّة تاركاً إرثاً نحويّاً هامّا سيبني عليه تلامذته صرح النحو، ويعزّزون أركانه.

 

الكاتب: أ. عبد المنعم العبدو مدرس اللغة العربية في مبادرة مسارات

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شارك المحتوى عبر:

محتوى المقال