مبادرة مسارات

مسؤوليتنا نحو المستقبل: كيف نعزز تعليم ورعاية الأيتام لبناء مجتمع أقوى
23 أبريل، 2024
محتوى المقال

في زوايا ذاكرته المُعتمة بغيوم الحرب والفقدان، يحتفظ “أحمد” بصورة والده، الذي كان يشع نوراً في ليالي مدينته الحالكة معرة النعمان، كان والده يحثه دائمًا على السعي وراء العلم والمعرفة، كمصباح يهدي في رحلة الحياة الوعرة، ولكن في لحظة غادر فيها الأمان، غادر أحمد أيضًا مقاعد الدراسة وترك كتبه وأحلامه جانبًا، إذ فقد والده ومعيله في سن العاشرة وهو بأشد الحاجة له.

 

لمدة أربع سنوات، طاف أحمد في متاهة الحياة، بين فقدان الأمل وصعوبة النزوح والظروف المادية، كانت أياما صعبة وحالكة مثل ليالي مدينته المهجورة، حيث فقد الدعم والمساندة اللازمة ليواصل تعليمه بفقدانه لوالده الذي كان السند له.

 

ومع ذلك، في أعماق قلبه المثقل بالأحزان، ظل صوت والده يتردد، مذكّرًا إياه بأهمية العلم والتعلم، وهكذا بعد خمس سنوات عجاف، وقف أحمد على أعتاب مبادرة “مسارات” التي سمع أنها تقدم التعليم عن بعد، فبادر للتسجيل بها، حيث قدمت لأحمد فرصة التعليم عن بعد، مجانًا وبسهولة تامة، دون أعباء التنقل أو القلق المادي.

 

بتحدِ وعزيمة، عاهد أحمد نفسه وروح والده الطاهرة، أن يواصل السير في درب العلم، لا يتوقف ولا يلين، ورسم لنفسه خارطة طريق نحو المستقبل، متسلحًا بالعلم والمعرفة، متحديًا كل العقبات.

 

 

ويحلم اليوم بأن يصبح نبراس يضيء لغيره من الأيتام طريق النجاح والتفوق، مواصلاً مسيرة والده التي بدأت به.

 

فضل وأهمية رعاية الأيتام وتعليمهم في الإسلام

في عالم مليء بالتحديات والتقلبات، يقف اليتيم كشجرة صغيرة في وسط صحراء قاسية، تبحث عن الماء والنور لتنمو وتزدهر، فرعاية الأيتام ليست مجرد فعل من أفعال الخير، بل هي بناء أساس مجتمع قوي ومتماسك، إنها رحلة محبة وعطاء، حيث تزرع الأمل في قلوب صغيرة تحمل في طياتها أحلاماً كبيرة.

 

هذا الطفل البريء الذي فقد الحنان والأمان، يحتاج إلى يد تمتد إليه بالمحبة والرعاية، فضل رعاية الأيتام لا يقتصر على الطفل نفسه، بل يمتد تأثيره ليشمل المجتمع بأكمله، إنها تعني منحهم الفرصة للنمو والتطور بشكل صحي، ليصبحوا في المستقبل أعضاء فاعلين ومساهمين في بناء وتنمية مجتمع يحافظ على الأمن ويحقق السلام.

 

فضل تعليم الأيتام 

هل تعلم أن تعليم الأيتام كالماء للزهرة العطشى، إنه يفتح أبواب الأمل ويمنحهم القوة لمواجهة تحديات الحياة، يعطيهم الأدوات لبناء مستقبلهم بأيديهم، يمنحهم القدرة على الحلم والسعي لتحقيق هذه الأحلام، إنه يخلق جيلاً متعلماً، قادراً على التفكير والإبداع، وبالتالي دفع عجلة التقدم في المجتمع.

 

وحين يكفل المؤمن يتيما فإنه يتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام ذاق اليُتم مثله، ويأمر بعدم قهره ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى:6] يقابلها ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى:9]. وهي ترضية لليتامى، وإغراء لكافليهم بأنهم يكفلون من عاشوا طفولتهم عيشة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يؤذونهم ولا يكرهونهم بل يقدمون لهم المساعدة لدعمهم في حقهم بالتعليم والعيش الكريم.


وقال تعالى ﴿ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ﴾ النساء: 127، وهذا حث للمسلمين على ضرورة الاعتناء بالأيتام، حماية ممتلكاتهم، العناية بتربيتهم وتعليمهم، والتأكد من توفير بيئة عادلة ومنصفة لهم، كما تحذر من الظلم أو الإساءة إليهم.


وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-: (أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: مَن مَسَحَ رَأسَ يَتيمٍ لم يَمسَحْه إلَّا للهِ، كان له بكلِّ شَعرةٍ مَرَّتْ عليها يدُه حَسناتٌ، ومَن أحسَنَ إلى يَتيمةٍ أو يَتيمٍ عندَه، كنتُ أنا وهو في الجنَّةِ كهاتَينِ، وقَرَنَ بيْنَ إصبَعَيه: السَّبَّابةِ والوُسطى)


وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ –صلَ الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: “إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ”. أخرجه أحمد وصححه الألباني.

 

كيف يمكن المساهمة في رعاية وتعليم الأيتام؟
في ظل الحرب وعدم الاستقرار في مناطق شمال غرب سوريا، تواجه العملية التعليمية تحديات وصعوبات كبيرة، خاصةً للأطفال الأيتام الذين فقدوا المعيل الأساسي لرعايتهم وتقديم العون لهم، ومن قلب هذه المعاناة وغيرها، وُلدت مبادرة مسارات لتقدم التعليم عن بعد كحل لتسرب الطلاب وانقطاعهم عن الدراسة، و أولينا الاهتمام للطلاب الأيتام منهم، عن طريق:

 

  • توفير بيئة تعليمية مناسبة: حيث نقدم التعليم لهم مجانًا، بتوفير بيئة آمنة ومحفزة، دون أعباء التنقل وصعوباته في ظل ظروف قاسية وغير آمنة، بالإضافة إلى تزويدهم على حسب الاستطاعة باللوازم المدرسية من كتب وقرطاسية، وغيرها.

 

  •  الرعاية الشخصية والتوجيه: الإشراف الشخصي والتوجيه للأيتام في مسارهم التعليمي. يشمل ذلك تقديم المشورة والتوجيه المهني، ومساعدتهم في اتخاذ قرارات مهمة تتعلق بمستقبلهم التعليمي والمهني.

 

  • توفير فرص التعليم الإضافية: تشجيع الأيتام على المشاركة في الأنشطة التعليمية الإضافية مثل الدورات التدريبية، ورش العمل، والبرامج التعليمية الصيفية، التي يمكن أن تعزز من مهاراتهم ومعارفهم.

 

  • التشجيع على التعلم الذاتي: تحفيز الأيتام على التعلم الذاتي واستكشاف مجالات اهتمامهم، يمكن ذلك من خلال توفير الكتب، الوصول إلى الموارد التعليمية عبر الإنترنت، وتشجيعهم على المشاركة في أنشطة تعليمية خارج نطاق المدرسة.

 

  • الدعم النفسي والاجتماعي: توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأيتام لمساعدتهم في التغلب على التحديات التي قد تواجههم ضمن مسيرتهم التعليمية، وهذا يشمل الاستماع إلى مشاكلهم، تقديم النصح والتوجيه، وبناء علاقة داعمة معهم.

 

واجبنا تجاه الأيتام 

العمل الإنساني المتمثل في رعاية الأيتام وكفالتهم، خاصةً في مجال التعليم، يعتبر جزءًا أساسيًا من مسؤوليات المسلم المؤمن، يُنظر إلى هذه المسؤولية ليس فقط كواجب ديني، ولكن أيضًا كجزء من الأخلاق الإسلامية والتزامها تجاه المسلمين.

 

وتحقيق التوازن الاجتماعي من خلال الاهتمام بالأيتام وتوفير الدعم الكافي لهم، يُساهم في بناء مجتمع متوازن يرعى حقوق جميع أفراده، بما في ذلك الأكثر ضعفًا، وتنمية الأجيال القادمة يكون بالاستثمار في تعليم الأيتام ورعايتهم يضمن تنشئة جيل قادر على المساهمة بفعالية في المجتمع.

 

بالإضافة إلى أن الاعتناء بالأيتام يعزز قيم الإحسان والتكافل الاجتماعي، وهذه القيم لا تقتصر فقط على تقديم المساعدة المادية، بل تشمل أيضًا الرعاية العاطفية والنفسية والاجتماعية، وتقوية الروابط داخل المجتمع، حيث يشعر الأفراد بأنهم جزء من شبكة تكافلية تهتم بجميع أفرادها.

 

في الإسلام، هناك تأكيد كبير على الثواب والأجر الذي يحصل عليه من يعتني بالأيتام، يُنظر إلى هذه الأعمال كوسيلة لكسب رضا الله والتقرب منه.

 

نهايةً يجب أن نتذكر أنه لكل يتيم قصة لم تُروَ بعد، حلم لم يتحقق، ومستقبل ينتظر أن يُكتب، ورعايتهم وتعليمهم يمثلان جسراً نحو هذا المستقبل، إنها دعوة لكل قلب ينبض بالحب والعطاء لأن يكون جزء من هذه الرحلة النبيلة والسامية، لنمد أيدينا وقلوبنا لهؤلاء الأطفال الأيتام، ففي كل مرة نساعد فيها يتيماً، نكون قد أضفنا بريقاً من الأمل إلى عالمنا المليء بالظلمات.

 

تخيل للحظة بإمكانك أن تكون جزءًا من قصة أحمد، ومن قصص كثيرة أخرى مشابهة لها، تُسهم في تحويل حياة يتيم من الظلمة إلى النور، من اليأس إلى الأمل، إنها دعوة لك لتكون مساعدتك ومساندتك جسرًا يعبر عليه هؤلاء الأطفال نحو مستقبل مشرق، يسوده العلم والمعرفة، فدعمك ليس مجرد مساهمة مادية، بل هو استثمار في مستقبل جيل بأكمله.

 

الكاتب: أ.فؤاد الديك مدير الموارد البشرية في مبادرة مسارات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شارك المحتوى عبر:

محتوى المقال